كيف خانت النخب الفلسطينية شعبها؟
الدكتور سعيد بسيسو
في تاريخ الشعوب المحتلة، تبقى خيانة النخب أخطر من سلاح العدو، لأنها تأتي من الداخل، وتلبس ثوب «التمثيل» و«التحرير»، لكنها في الواقع تبيع أحلام الجماهير مقابل اعتراف زائف ومناصب هزيلة.
وهكذا كانت قصة النخب الفلسطينية التي انحرفت عن درب المقاومة، وضيعت بوصلة القضية تحت لافتات السياسة والواقعية والتفاوض.
– من الثورة إلى التسوية:
حين كانت بنادق الفدائيين تدوي في جبال لبنان والأردن كانت المكاتب المكيفة في العواصم تعد الطريق إلى أوسلو. هناك، على طاولة في عاصمة أوروبية، تنازلت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 عن كثير من ثوابت الشعب الفلسطيني، فاعترفت بإسرائيل مقابل وعد بدولة مؤقتة بلا سيادة.
كان ذلك التحول من «التحرير الكامل» إلى «الحكم الذاتي المحدود» الشرارة التي فجرت خيبة كبرى في ضمير الأمة، وأثبتت أن النخبة السياسية لم تعد ترى فلسطين من منطلق العقيدة والحق التاريخي، بل من منظور الدبلوماسية والمصالح.
– النخب والتمويل الأجنبي:
بعد أوسلو، تحول كثير من قادة المؤسسات والمنظمات إلى وسطاء للتمويل الدولي المشروط. فأصبح القرار الوطني مرتهنًا للمساعدات والمنح، وصار الحديث عن «الاستقلال المالي» نكتةً تتداولها الأجيال.
وفي ظل هذه التبعية، تحولت المقاومة إلى إدارة، والنضال إلى مشروع اقتصادي. بروتوكولات باريس الاقتصادية (1994) ربطت الاقتصاد الفلسطيني بالاحتلال، فصار الخبز والسلاح والدواء بأمر المحتل، وتحت إشراف «المنسق» الأمني.
– الفساد والوجه القبيح للخيانة:
تراكمت التقارير الدولية التي توثق الفساد: رواتب خيالية، وسفريات على حساب المانحين، وتعيينات بالمحسوبية. وبينما يعيش الشعب الفلسطيني تحت الحصار والاحتلال، تعيش النخب في الفنادق الفاخرة، تتحدث باسم «المعاناة» وهي لم تذقها.
والمأساة الأكبر أن هذه النخب لم تكتف بالفساد المالي، بل فسدت فكريًا أيضًا، إذ تبنت خطابًا علمانيًا غربيًا نزع عن القضية روحها الإسلامية، وجعلها نزاعًا حدوديًا لا صراعًا عقديًا، كما أشار المؤرخ رشيد الخالدي في نقده لطبيعة الخطاب الفلسطيني المعاصر.
– خيانة الهوية قبل خيانة الأرض:
إن أعظم خيانة ارتكبتها النخب الفلسطينية هي تفريغ القضية من محتواها الإيماني والرسالي. فحين يستبدل «الجهاد لتحرير القدس» بـ«السلام العادل»، وحين يهمش البعد القرآني والتاريخي في الوعي الشعبي، تصبح فلسطين مجرد قضية سياسية قابلة للمساومة.
لقد خانت النخب الفلسطينية شعبها حين قدمت نفسها بديلًا عن الأمة لا ممثلًا لها، وحين اختارت طريق المفاوضات بدل المقاومة، والامتيازات بدل التضحيات.
لكن الشعوب لا تموت، ووعي الأجيال الجديدة يعيد صياغة المشهد من جديد. فاليوم، جيل يقرأ، ويحاسب، ويعرف أن التحرير لا يأتي من قصور المؤتمرات، بل من ميادين الصدق والتضحية.
