شبهة (2) لم يكن المسجد الأقصى بناءً قائمًا في عهد الرسول ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم
الشبهة الثانية
من كتاب حرب الشبهات على المسجد الأقصى (ص19-26)
لم يكن المسجد الأقصى بناءً قائمًا في عهد الرسول ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم
وهذا قول متهالك يردده من لم يشم رائحة الكتاب والسنة، ولم يقرأ التاريخ، ولذلك؛ فرد هذه الشبهة من وجوه عديدة؛ منها:
1- أن المسجد الأقصى بناء قائم قبل الرسول ﷺ، عن أبي ذر رضي الله عنه؛ قال: قلت: يا رسول الله أي مسجدٍ وضع أول؟ قال: «المسجد الحرام» قلت: ثم أي قال: «ثم المسجد الأقصى» قلت: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون» ثم قال: «حيثما أدركتك الصلاة، فصل والأرض لك مسجد»(1).
ففي هذا الحديث عدة حقائق متعلقة ببناء المسجد الأقصى:
أ- أن المسجد الأقصى ثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام بأربعين سنة.
ب- وهذا يعني: أنه مبني قبل الرسول ﷺ بآلاف السنين
ت – إن أول مسجد في الإسلام هو مسجد قباء، ثم مسجد النبي ﷺ، وبذلك يظهر أن المسجد الأقصى بناء قائم قبل أي مسجد في الإسلام.
٢- كثير من المحققين قالوا: أن الذي بنى المسجد الحرام والمسجد الأقصى هو آدم أبو البشر عليه الصلاة والسلام.
قال ابن الجوزي في «كشف المشكل» (1/360): «الإشارة إلى أول البناء، ووضع أساس المسجدين، وليس أول من بنى الكعبة إبراهيم، ولا أول من بنى بيت المقدس سليمان، وفي الأنبياء والصالحين والبانين كثرة، فالله أعلم بمن ابتدأ.
وقد روينا أن أول من بنى الكعبة آدم؛ ثم انتشر ولده في الأرض؛ فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس».
وبنحو ذلك قال القرطبي في «الجامع الأحكام القرآن» (4/137)، ورجحه الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (6/409).
3- ثبت بصريح القرآن أن إسراء الرسول ﷺ كان من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾ [الإسراء:1].
والمسجد الحرام كان بناء قائمًا، ويلزم من ذلك أن يكون المسجد الأقصى بناء قائمًا؛ لأن كليها وصفا بالمسجدية!!
ومما يؤكد هذا القول جملة أمور وردت في صحيح السنة النبوية:
أ- أن النبي ﷺ صلى بالأنبياء في بيت المقدس؛ لقوله ﷺ: «فحانت الصلاة؛ فأممتهم»(2).
قال ابن كثير ♫ في «تفسيره» (5/31): «والصحيح: أنه إنما اجتمع بهم في السماوات، ثم نزل إلى بيت المقدس ثانيًا وهم معه، وصلى بهم فيه، ثم ركب البراق، وكر راجعًا إلى مكة».
ب – أن قريشاً لما سألوا النبي ﷺ عن معالم المسجد وأوصافه نُقِلَ المسجد الأقصى وصار النبي ﷺ ينظر إليه، وينعته بدقة بالغة؛ حتى أن قريشًا أقرت له بصحة الوصف، ودقة النعت.
عن جابر بن عبد الله ¶ أن رسول الله ﷺ قال: «لما كذبتني قريش قمت في الحجر؛ فجلا الله لي بيت المقدس؛ فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه»(3).
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله ﷺ: «لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قط»، قال: «فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به»(4).
وهذه الأحاديث وغيرها تدل عن جملة أمور؛ منها:
أولها: أن المسجد الأقصى كان بناء قائماً له معالم يسأل عنها؟!
ثانيها: أن قريشًا تعرف هذه المعالم؛ فسألت الرسول ﷺ عنها.
ثالثها: أن الله عز وجل رفع المسجد الأقصى، وأتى به إلى مكة؛ لينظر إليه رسول ﷺ؛ مما يدل على أنه بناء قائم، وليس أرضًا خلاء.
رابعها: أن الرسول ﷺ وصف تلك المعالم التي سئل عنها بدقة الناظر إليها.
خامسها: أن قريشًا لم تجد بدًّا من الاعتراف بصدقه في هذا الباب، ولذلك لم يكن التكذيب في وصفه للمسجد الأقصى، وإنما التكذيب في وقوع الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة؛ لزعمهم أن ذلك محال، فهم يقطعون المسافة من مكة إلى بيت المقدس في أشهر!!
4- أن رسول الله ﷺ ربط البراق في الحلقة التي كان يربط بها الأنبياء؛ وهي: إحدى معالم المسجد الأقصى؛ مما يدل على أنه بناء قائم، وفي ذلك جملة أحاديث؛ منها:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «أتيت بالبراق؛ وهو: دابة أبيض طويل فوق الحمار، ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه»، قال: «فركبته حتى أتيت بيت المقدس» قال: «فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء»، قال: «ثم دخلت المسجد؛ فصليت فيه ركعتين»(5).
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني، فأتى قبلة المسجد، فربط دابته، ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس، فصليت من المسجد حيث شاء الله»(6).
فهذه الحلقة الصخرية شاهدة على عمارة المسجد الأقصى، وأن الأنبياء والمرسلين جددوا بناءه، ولا تزال هذه الحلقة حتى يومنا هذا شاهدًا صادقًا على عمارة المسجد الأقصى عبر التاريخ.
وحديث شداد رضي الله عنه صريح في أن المسجد الأقصى بناء قائم له أبواب وله جدران: ﴿مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ﴾ [الصافات:154]!… ﴿وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء:18]!!
5- ما كتبه الرحالة (أركولف)، وهو رجل دين من بلاد الغال (فرنسا حاليًا).
وصف المسجد الأقصى في الفصل الأول بعنوان «موقع مدينة القدس»، وقد ذكر: بوابات المدينة، والسوق السنوي، وموقع معبد سليمان عليه الصلاة والسلام، ووصفه: بأنه مسجد المسلمين، وأنه بناء ضخم، والمنازل العظيمة.
وكانت هذه الرحلة سنة (٥0 هجرية)؛ أي: قبل زعمهم: أن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي هو الذي بنى المسجد الأقصى سنة (72هجرية).
ومما جاء في وصف المسجد الأقصى: «وفي هذا المكان المشهور كان يوجد معبد سليمان عليه الصلاة والسلام؛ أي: المسجد الأقصى، وكان هذا المعبد مجاورًا للسور الشرقي، وهنا شيد المسلمون مسجدًا للصلاة: مربع البناء، وأنه بني في عجالة، وأنه مقام على أعمدة خشبية كبيرة، وعلى بعض ما تبقى من خرائب، وأن هذا المسجد يسع ثلاثة آلاف رجل في وقت واحد».
وبالجملة؛ فالمسجد الأقصى مسرى رسول الله ﷺ كان بناء قائمًا، وليس أرضًا جرداء خلاء من أي بناء!
6- ما كتبه المؤرخون المسلمون وصفًا لدخول عمر رضي الله عنه بيت المقدس، وصلاته في المسجد الأقصى فيه دلالة واضحة أن المسجد بنيان قائم:
قال ابن جرير الطبري في «تاريخه» (2/45): «لما شخص عمر من الجابية إلى إيلياء، فدنا من باب المسجد؛ قال: ارقبوا لي كعبًا، فلما انفرق به الباب، قال: لبيك، اللهم لبيك، بما هو أحب إليك! ثم قصد المحراب: محراب داود عليه الصلاة والسلام، وذلك ليلًا، فصلى فيه، ولم يلبث أن طلع الفجر؛ فأمر المؤذن بالإقامة؛ فتقدم؛ فصلى بالناس، وقرأ بهم (ص)، وسجد فيها، ثم قام، وقرأ بهم في الثانية صدر بني إسرائيل، ثم ركع ثم انصرف، فقال: علي بكعب؛ فأتي به، فقال: أين ترى أن نجعل المصلى؟
فقال: إلى الصخرة؛ فقال: ضاهيت والله اليهودية يا كعب، وقد رأيتك وخلعك نعليك، فقال: أحببت أن أباشره بقدمي، فقال: قد رأيتك، بل نجعل قبلته صدره؛ كما جعل رسول الله ﷺ قبلة مساجدنا صدورها».
وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» (7/55و56): «سار حتى صالح عمر نصارى بيت المقدس، واشترط عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث، ثم دخلها إذ دخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله ﷺ ليلة الإسراء…، فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود، وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد… ثم جاء إلى الصخرة؛ فاستدل على مكانها من كعب الأحبار، وأشار عليه كعب أن يجعل المسجد من ورائه، فقال: ضاهيت اليهودية.
ثم جعل المسجد في قبلي بيت المقدس؛ وهو: العمري اليوم، ثم نقل التراب عن الصخرة في طرف ردائه وقبائه، ونقل المسلمون معه في ذلك، وسخر أهل الأردن في نقل بقيتها، وقد كانت الروم جعلوا الصخرة مزبلة؛ لأنها قبلة اليهود».
فهذه النقولات التاريخية تثبت بدون مواربة أن المسجد الأقصى بنیان قائم: له جدران وأبواب ومحراب، وأنه متسع صلى فيه عمر والمسلمون من ورائه… فماذا يريد المشككون أدلة أوضح من القرآن والسنة والتاريخ؟!
7- هب جدلًا أن المسجد الأقصى يومئذ لم يكن بنيانًا قائمًا بسبب هدمه أو خرابه أو غير ذلك من الأسباب؛ فإن البركة والمسجدية ثابتة للمكان، وليس للبنيان يدل على ذلك:
أ- قول الله تعالى مخبرًا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما ترك هاجر وولدها إسماعيل عند البيت الحرام؛ فليس ثمة بنيان للكعبة بدليل أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام رفع القواعد من البيت بعد ما شبَّ إسماعيل عليه الصلاة والسلام.
قال الله تعالى: ﴿رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ﴾ [إبراهيم:37].
والمراد هنا: مكان البيت لا بنيانه، بدلالة قوله تعالى: ﴿وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡـٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ﴾ [الحج:26].
وإنما بنى إبراهيم البيت هو وإسماعيل لما شب: ﴿وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ﴾ [البقرة:127].
وبهذا يتبين أن القدسية للمكان، والبنيان رمز لذلك.
ب- وهذا صريح كذلك في المسجد الأقصى؛ إذ جعل الله القدسية والبركة للمكان: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾ [سورة الإسراء:1]. وقال أيضًا: ﴿يَٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ﴾ [المائدة:21].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (3425)، ومسلم (520).
(2) أخرجه مسلم (١٧٢) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري (3886)، ومسلم (170).
(4) أخرجه مسلم (172).
(5) أخرجه مسلم (162).
(6) أخرجه البزار (3484)، والطبراني في «الكبير» (7142)، وصححه البيهقي.