الإمام الألباني وفلسطين: ما بين النقد والواجب الشرعي
بقلم الشيخ فلاح الخالدي
لم يكن الإمام محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ مجرد محدث عصره، بل كان مدرسة علمية متكاملة جمعت بين دقة الحديث، ونفاذ البصيرة، واستحضار السنن الإلهية في تنزيل النصوص على الواقع. وإذا ذكر الإمام الألباني في سياق القضية الفلسطينية، تقافزت إلى الأذهان إشارات منتقاة من كلامه، قد تفهم مبتورة عن سياقها، لتتهم السلفية من خلالها بالتخلي عن فلسطين، أو الصمت عن الاحتلال، أو حتى الوقوف ضد الجهاد… والحقيقة أوسع وأعمق من ذلك بكثير.
فقد عاش الإمام الألباني في ظل النكبة والنكسة، وكان شاهدًا على تحولات الأمة وآلامها، إلا أنه لم يسلم وجدانه للعواطف الجياشة، بل ظل يستصحب النص الشرعي والعقل الراشد في نظرته للمحن والفتن. وقد نقل عنه ـ رحمه الله ـ أنه كان يرى خطورة التسرع في إشعال الحروب قبل الإعداد الشرعي والعقدي والعسكري، وهو ما فهمه البعض بأنه تقاعس، بينما هو ـ في ميزان الشرع ـ من الحكمة والتخطيط والبصيرة.
إن موقف الإمام الألباني من القضية الفلسطينية لا يمكن فصله عن منهجه الكلي في الإصلاح، إذ كان يرى أن التمكين لا ينال بالشعارات، ولا باستيراد التجارب الثورية، بل ببناء الإنسان المسلم على التوحيد الصحيح، والتجرد لله، والتحاكم للكتاب والسنة، ثم إعداد القوة المادية والمعنوية، كما في قوله تعالى: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة﴾. وهذا لا يعني بحال التهاون في نصرة فلسطين، بل هو تحديد لأولويات النهوض الحق، لا الركض وراء سراب النصر الموهوم.
وقد أفتى الإمام الألباني مرارًا بحرمة الاعتراف بـدولة إسرائيل، وان تحرير فلسطين واجب وفرض على المسلمين، وأكد أن فلسطين أرض إسلامية لا يجوز التنازل عن شبر منها. وكان يحذر من تسليم القضية بيد الفصائل الحزبية التي تتلاعب بعواطف الجماهير، وتخلط بين العقيدة والسياسة.
ومن أقواله المنقولة عنه: قضية فلسطين لا تحل إلا بالرجوع إلى الإسلام، أما الديمقراطية والعلمانية فهي لا تزيد المسلمين إلا ضعفًا.
وهذا قول يفهم منه أن طريق التحرير ليس مرهونًا بالاصطفافات الأيديولوجية، بل بالعودة إلى منهج النبوة.
ولم يكن الشيخ الألباني غريبًا عن هموم الشعب الفلسطيني، فقد عانى التهجير بنفسه؛ حيث هاجر من بلاده ألبانيا فرارًا بدينه، وعايش هجرة الفلسطينيين عندما كان بلاد الشام بعد نكبة 1948، وأحب بيت المقدس والمسجد الأقصى؛ كنه رفض أن يستغل اسمه في معارك مشبوهة، أو أن يكون غطاءً شرعيًا للتهور أو التبعية. وهذا ما يجعل موقفه موقفًا مبدئيًا ثابتًا، لا يتغير بتبدل الأحوال.
وفي ختام هذا المقال، فإن الإنصاف يقتضي أن نعيد قراءة تراث الإمام الألباني في ضوء منظومته الكلية، لا من خلال اقتباسات مبتورة. فالرجل لم يكن ضد فلسطين، بل ضد تضييعها باسم الحماسة، وضد تسليمها للمشاريع الثورية البعيدة عن الوحيد، لقد أرادها رحمه الله قضية أمة لا ورقة مساومة، ومسؤولية منهج لا مجرد دعاية حزبية. ومن هنا كانت مواقفه امتدادًا لعلمه، وثباته صدىً لعقيدته، ورؤيته تحكي صدق البصيرة وطول النفس، في زمن عز فيه النظر الراشد.